في الجلسة الأولى لمشتركة معي في خدمة المرافقة، أخبرتني أن صديقة لها لم تدرس الإدارة يوما، ولم تعرف نظريات التسويق، لكنها تبيع منتجاتها بكميات كبيرة وتحقق الأرباح، وعندما سألتها كيف يمكنك فعل ذلك؟ أجابت بكل بساطة أن الموضوع بسيط جدا وأنها تدير مشروعها بشكل تلقائي دون تخطيط... وبينما كانت المشتركة مندهشة ونوعا ما مشككة في جدوى التخطيط لمشروعها، وعلى عكس ما كانت تتوقع، قلت لها هل تعرفين أن هذا التساؤل مطروح منذ بدء نظريات الإدارة والتخطيط؟ وهل تعرفين أن هذا السؤال يستحق التوقف عنده كثيرا لكي نفهم فعلا: هل نحن فعلا نحتاج لكل هذا التخطيط؟
في هذا المقال سأحاول مناقشة هذا التساؤل وأنقل لكم الأجواء الرائعة التي رافقت نقاشي مع المشتركة.
ربما أنت أيضا مررت من أمام متجر أو مطعم وتساءلت: كيف استطاع صاحب هذا المتجر التميز والمحافظة على مبيعات مرتفعة على مدار سنوات وهو قطعا لم يقم بدراسة سوق أو تخطيط للمشروع؟ كيف يمكن لهذا الإنسان البسيط أن ينجح ويتميز في السوق بينما لم يتمكن من ذلك آخرون قاموا بفتح متاجر مشابهة بمعدات أفضل وديكورات أجمل؟! كيف وكيف؟ وغيرها من الأسئلة التي تدور في ذهن أي صاحب مشروع.
للإجابة عن هذا السؤال، ومن خلال تعاملي مع العشرات من صاحبات المشاريع، هناك 6 جوانب مهمة تستحق فهمها ودراستها لكي نتمكن من الوصول لأفضل إجابة، وهذه الجوانب هي:
1. التخطيط كعلم والتخطيط كمهارة:
لنتذكر بداية أننا كبشر مختلفون عن بعضنا البعض في القدرات والمهارات، وهذا أيضا ينطبق تماما على مهارات إدارة الموارد أو إدارة المصاريف، ومهارة الانتباه ومتابعة التفاصيل، وغيرها، وبما أن الإدارة والتخطيط في أجزاء كبيرة منهما يعتمدان على التفكير المتسلسل والقرارات المبنية على قرارات، فيمكن أن يتفاوت البشر في قدرتهم على الإدارة تفاوتا طبيعيا لا يتعلق بالعلم الذي يمتلكونه بقدر ما يتعلق بمهاراتهم الشخصية في التنظيم والتفكير.
2. التخطيط مقابل التجربة والخطأ:
هل فكرتم يوما في القصص التي نسمعها والتي تشابه قصة صديقة المشتركة؟ ما هو الرابط بينها؟... نعم، هو "النجاح"
النجاح بمفهوم الجمهور البسيط، بأن المشروع مثلا يبيع بكميات ممتازة ويحافظ على ذلك لفترة طويلة... لكن، هل تساءلتم لماذا لا يخبرنا أحد عن المشاريع التي يفتتحها أصحابها دون تخطيط وسرعان ما تفشل وتغلق أبوابها؟ لماذا لا يتحدث أغلب الناس في جلساتهم عن عدد المطاعم التي تفتح ولا تستمر لأكثر من أشهر؟ لماذا يتحدثون عن كشك الفلافل الذي يبيع الفلافل "بنجاح" باهر لأكثر من 20 سنة، بينما لا يتحدث أحد عن 5 مطاعم بنفس الحي لم تصمد لأكثر من سنة؟
هذه حقيقة تعود لأننا نرغب في الحديث عن القصص التي تبهرنا، فما هو المبهر في مشروع يغلق أبوابه؟ بالإضافة إلى أن هذه المشاريع تموت بصمت ويحرص أصحابها على الخروج السريع والصامت من السوق.
بعبارات أخرى، فإن مقابل كل مشروع ينجح دون تخطيط، يفشل 10 مشاريع ولا نسمع عنهم أو نسمع ببعضهم، وهنا يبرز سؤال مهم: هل مشروعك ووقتك وطاقتك يتحمل التجربة التي ربما تنجح لكن بنسبة قليلة جدا مقابل النسب المرتفعة جدا من المشاريع التي فشلت لعدم وجود تخطيط؟
3. التخطيط ومفهوم النجاح النسبي:
إذا سألتك، ما رأيك بمشروع يربح 2000 دولار شهريا؟ ربما ستقول: جيد
إذا سألتك، ما رأيك بمشروع يربح 5000 دولار شهريا؟ ربما ستقول: جيد جدا
ما رأيك بمشروع يربح 10000 دولار شهريا؟ ربما سيكون جوابك: ممتاز ما شاء الله
طيب ما رأيك بمشروع يربح 50000 دولار شهريا؟ غالبا سيكون جوابك: واو رائع جدا لا بد أن صاحب المشروع سعيد جدا
طيب ما رأيك بمشروع يربح مليون دولار شهريا؟ سيكون جوابك: لا أصدق، أتمنى أن يكون المشروع لي حينها سأحقق كل أحلامي
الآن، ما رأيك بمشروع يربح 2000 دولار شهريا؟ ربما سيكون جوابك: قليل
هل تنبهت أن تعريفك "للنجاح" هو نسبي؟ هل شعرت أن قيمة المال تختلف حينما تقارن كل رقم بأرقام أعلى منه؟ بنفس الطريقة، هل فكرت يوما أن المشروع الذي تصفه بالمشروع "الناجح" ربما لو قام بتغيير طريقة التسويق أو استخدم أساليب جديدة في الإدارة فسيكون "ناجحا" أكثر؟ لماذا مثلا لا يمكن للمتجر الذي يتحدث عن نجاحه جميع أهالي المنطقة أو يصبح المتجر الأول على مستوى المدينة؟ بل المحافظة؟ بل الدولة... وهكذا
ما يهمنا من هذه التمارين الذهنية، أن ندرك أن المشاريع التي قد تبدو ناجحة بدون تخطيط ربما تكون قد فوتت أو تفوت فرص أن تكون أكثر نجاحا وتميزا، وربما تستطيع بتخطيط أن تزيد نجاحها وتنتقل لمستويات متقدمة في السوق.
4. التطور واشتداد المنافسة:
من المهم أيضا أن نفهم أن عصر اليوم المليء بالتكنولوجيا والحلول الرقمية والذكاء الاصطناعي لم يعد ذلك العصر الذي يمكننا فيه أخذ وقت طويل في التجربة والخطأ أو المحاولات دون مساعدة أحد، فالوقت اليوم يتسارع والأفكار تجد من يقوم بتنفيذها إذا لم تقوم أنت بذلك، وليس معنى هذا الكلام أن نشعر بتوتر وعجز، بل أن نشعر بأهمية أخذ خطوات مدروسة لأن الخطأ أكثر تكلفة مما سبق، فالمنافسة في كل الأسواق تزداد، وإمكانية استخدام الكثير من أساليب المنافسة أصبحت متاحة للجميع، لذلك تبرز أكثر أهمية التخطيط، لأننا باختصار لم نعد نملك رفاهية التجريب كما في الفترات السابقة.
5. التخطيط ليس مرحلة مملة لا تنتهي:
قبل عملي كمستشارة للمشاريع الريادية، عملت في شركة استشارات تقليدية، حيث كانت بعض الخطط تأخذ أكثر من سنة لإنجازها، وكان المخرج النهائي هو ملف يتكون من مئات الصفحات. وهذا كله يتخلف تماما في عالم مشاريع اليوم القائمة على خبرات أصحابها مثل المشاريع الصغيرة والمنزلية مثلا، فهذه لا تحتاج أبدا لهذه النوع من التخطيط، ولا يجب أن تتحول لمرحلة طويلة تستهلك الجهد والطاقة، بل إلى مرحلة منتجة من التفكير الإبداعي في الحلول والتحديات وتجاوزها، لأن التخطيط إذا زاد عن الحد المنطقي سيتحول لعبء على المشروع وصاحبته ولن تستطيع الخروج من هذه المرحلة التي ستطل فيها تسعى للكمال ولن تحصل عليه، فالتخطيط هو الخطوة الأولى للعمل، وليس للجلوس والتردد.
6. التخطيط ومفهوم الرزق والتوفيق:
من أكثر الآيات القريبة لقلبي "وأن سعيه سوف يرى" أنا أؤمن أن هناك توفيقا من الله لمن يسعى ويحاول، وأؤمن أننا يجب أن نستعين بكل خبراتنا وعلمنا لكي ندرس خطواتنا قبل أن نقوم بها، وبنفس الوقت أن نطلب التوفيق والرزق من الله، وهذا لا يتعارض أبدا مع فهمي للإدارة والتخطيط، بل يكمله، فلا يجب أن نشغل أنفسنا بأرزاق الآخرين، بقدر ما أن نسعى لتطوير أنفسنا وأن نعقل ونتوكل.
وعودة لنقاشي الجميل مع المشتركة، اتفقنا أن نخطط لمشروعها وأن نتعامل بإيجابية مع تساؤلاتنا كصاحبات مشاريع وأن نتشارك تجاربنا وأن نستعين بخبرات بعضنا، وأن نبحث دائما عن الإجابات من خلال السعي، فالخطوة الأولى هي الأهم فهي التي تنقلنا من مجرد أصحاب أفكار، إلى أصحاب مشاريع ناجحة بتوفيق الله، وكل ذلك بالتخطيط المدروس.